فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} كافةً وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بهم في خاتمةِ سورةِ البقرةِ.
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ الذي هُو مبتدأٌ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ قد مرَّ سرُّه مرارًا، وهو مبتدأٌ ثانٍ. وقوله تعالى: {هُمْ} مبتدأ ثالث خبره {الصديقون والشهداء} وهُو معَ خبرِه خبرٌ للثانِي وهو معَ خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل، وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصولِ أي أُولئكَ {عِندَ رَبّهِمْ} بمنزلة الصديقينَ والشهداءِ المشهورينَ بعلوِّ الرُّتبةِ ورفعةِ المحلِّ وهُم الذينَ سبقُوا إلى التصديقِ واستُشْهِدوا في سبيلِ الله تعالى أو هم المبالغونَ في الصدقِ حيثُ آمنُوا وصدَّقُوا جميعَ أخبارهِ تعالى ورسلِه والقائمونَ بالشهادةِ لله تعالى بالوحدانيةِ ولهم بالإيمانِ أو على الأممِ يومَ القيامةِ وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} بيانٌ لثمراتِ ما وُصفُوا بهِ من نعوتِ الكمالِ على أنَّه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ محلُّها الرفعُ على أنَّه خبرٌ ثانً للموصولِ أو الخبرُ هو الجارُّ وما بعدَهُ مرتفع بهِ على الفاعليةِ والضميرُ الأولُ على الوجهِ الأولِ للموصولِ والأخيرانِ للصديقينَ والشهداءُ أيْ لَهُم مثلُ أجرِهم ونورِهم المعروفينِ.
بغايةِ الكمالِ وعزةِ المنالِ وقد حذفَ أداةَ التشبيةِ تنبيهًا على قوةِ المماثلةِ وبلوغِها حدَّ الإتحادِ كما فعلَ ذلكَ حيثُ قيل هم الصديقونَ والشهداءُ، وليستِ المماثلةُ بين ما للفريقِ الأولِ من الأجرِ والنورِ وبينَ تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعافِ وأمَّا على الوجهِ الثاني فمرجعُ الكلّ واحدٌ والمَعْنى لهمُ الأجرُ والنورُ الموعودان لهم، هَذا هو الذي تقتضيِه جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد قيلَ والشهداءُ مبتدأٌ وعندَ ربِّهم خبرُهُ وقيلُ: الخبرُ لَهُم أجرُهم إلخ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفةِ القبيحةِ {أصحاب الجحيم} بحيثُ لا يفارقونَها أبدًا.
{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأموال والأولاد} بعدَ ما بُيِّنَ حالُ الفريقينِ في الآخرةِ، شُرحَ حالُ الحياةِ الدُّنيا التي اطمأنَّ بها الفريقُ الثَّاني، وأُشيرَ إلى أنَّها من محقرات الأمورِ التي لا يركنُ إليها العقلاءُ فضلًا عن الاطمئنانِ بَها وأنَّها مع ذلكَ سريعةُ الزوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ حيثُ قيلَ: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار} أي الحُرَّاثَ {نَبَاتُهُ} أي النباتُ الحاصلُ بهِ {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجفُّ بعدَ خضرتِه ونضارتِه {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعدَ ما رأيتَهُ ناضرًا مُونِقًا. وقرئ {مُصفارًَّا} وإنما لم يقلْ فيصفرُّ إيذانًا بأنَّ اصفرارَهُ مقارنٌ لجفافِه وإنما المترتبُ عليه رؤيتُه كذلكَ {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} هشيمًا مُتكسرًا ومحلُّ الكافِ. قيلَ: النصبُ على الحاليةِ من الضميرِ في لعبٌ لأنَّه في معنى الوصف، وقيل الرفع على أنه خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف أي مثل الحياةِ الدُّنيا كمثلِ إلخ وبعدَ ما بُيِّنِ حقارةُ أمرِ الدُّنيا تزهيدًا فيها وتنفيرًا عن العكوفِ عليها أُشيرَ إلى فخامة شأنِ الآخرةِ وعظمِ ما فيها من اللذاتِ والآلامِ ترغيبًا في تحصيلِ نعيمِها المقيمِ وتحذيرًا من عذابِها الأليمِ، وقُدِّمَ ذكرُ العذابِ فقيلَ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنَّه من نتائجِ الانهماكِ فيما فُصِّلَ من أحوالِ الدُّنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} عظيمٌ لا يُقَادرُ قَدرُه. {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} أي لمن اطمأنَّ بها ولم يجعلْها ذريعةً إلى الآخرةِ. عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ: الدُّنيا متاعُ الغرورِ إنْ ألهتكَ عن طلب الآخرةِ فأمَّا إذَا دعتكَ إلى طلبِ رضوانِ الله تعالى فنعمَ المتاعُ ونعمَ الوسيلةُ. اهـ.

.تفسير الآيات (21- 24):

قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين أن الدنيا خيال ومحال ليصرف الكملة من العباد عنها لسفولها وحقارتها، وأن الآخرة بقاء وكمال ليرغبوا غاية الرغبة فيها وليشتاقوا كل الاشتياق لكمالها وشرفها وجلالها، أنتج ذلك قوله تعالى: {سابقوا} أي افعلوا في السعي لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل من يسابق شخصًا فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه، ولكن ربما كان قرينه بطيئًا فسار هوينًا، وأما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة الأخص من المسابقة أبلغ لأنها للحث على التجرد عن النفس والمال وجميع الحظوظ أصلًا ورأسًا، ولذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين.
وأما هذه ففي سياق التصديق الذي هو تجرد عن فضول الأموال ولذلك كانت جنته للذين آمنوا.
ولما كان المقام عظيمًا، والإنسان- وإن بذلك الجهد- ضعيفًا، لا يسعه إلا العفو سواء كان سابقًا أو لاحقًا من الأبرار والمقربين، نبه على ذلك بقوله في السابقين؛ {إلى مغفرة} أي ستر لذنوبكم عينًا وأثرًا {من ربكم} أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره.
ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال: {وجنة} أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال: {عرضها} أي فما ظنك بطولها.
ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال: {كعرض السماء والأرض} أي لو وصل بعضها ببعض، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها، ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أن تقد كل واحدة منهما ويوصل رأس كل قدة برأس الأخرى، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك، وهذه الآية ظاهرها عرض واحد وأرض واحدة {أعدت} أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر {للذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعًا لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة، وأن الإيمان كاف في استحقاقها، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك {بالله} أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له بالإيمان {ورسله} فلم يفرقوا بين أحد منهم، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران، وإن قيل: إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات.
ولما كان من ذكر من الوعد بالمغفرة والجنة عظيمًا لا سيما لمن آمن ولو كان إيمانه على أعلى الدرجات ومع التجرد من جميع الأعمال، عظمه بقوله ردًا على من يوجب عليه سبحانه شيئًا من ثواب أو عقاب: {ذلك} أي الأمر العظيم جدًا {فضل الله} أي الملك الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه {يؤتيه من يشاء} ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملًا وأكثر أجرًا، فإذا حسدهم أهل الكتاب قال تعالى: هل ظلمتكم من أمركم شيئًا، فإذا قالوا: لا، لأن المصروف من الأجر لجميع الطوائف على حسب الشرط، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء.
{والله} أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله {ذو الفضل العظيم} أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول.
ولما كانت الدنيا مانعة عن العكوف إلى الآخرة بلذاتها وآلائها، وكانت كما أنها منزل رخاء هي دار بلاء، وكان قد اقتصر سبحانه في الآية السالفة على الأول لأن السياق للإنفاق والترغيب في معالي الأخلاق وجعل المسابقة إلى السعادة نتيجة الزهد فيها، تحركت النفس إلى السؤال عما يعوق عن الخير من الضرب بسياط البلاء فقال مسليًا عنه لأن النفوس أشد تأثرًا بالمكاره وأسرع انفعالًا بالمقارع ومحققًا ومغريًا بالإعلام بأنه لم يكن فيها خير ولا شر إلا بقضاء حتم في الأزل وقدر أحكم ووجب حين لم يكن غيره شيء عز وجل، وذكر فعل المؤنث الجائز التذكير لكون التأنيث غير حقيقي إشارة إلى عظم وقع الشر: {ما أصاب} وأكد النفي فقال: {من مصيبة} وهي في الأصل لكل آت من خير أو شر إلا أن العرف خصها بالشر، وعم الساكن والمتحرك بقوله: {في الأرض} أي من منابتها ومياهها ونحو ذلك {ولا في أنفسكم} أي بموت ومرض وعين وعرض {إلا} هي كائنة {في كتاب} أي مكتوب لأنه مقدر مفروغ من القدم، وبين أن الكتابة حدثت بعد أن كان هو سبحانه ولا شيء معه بإدخال الجارّ فقال: {من قبل أن نبرأها} أي نخلق ونوجد ونقدر المصيبة والأرض والأنفس، وهذا دليل على أن اكتساب العباد يجعله سبحانه وتقديره.
ولما كان ذلك متعذرًا على المخلوق فهو أشد شيء تكرهًا له وقوفًا مع الوهم قال مؤكدًا: {إن ذلك} أي الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل كونه، ثم سوقه النفوس والأسباب إلى إخراجه بعد التكوين على مقدار ما سبق علمه به وكتبه له {على الله} أي على ما له من الإحاطة بالكمال {يسير} لأن علمه محيط بكل شيء وقدرته شاملة لا يعجزها شيء.
ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة، بين ثمرة أعماله بقوله: {لكيلا} أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، لأن الحزن لا يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم ـ: «يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن» لأجل أن لا {تأسوا} أي تحزنوا حزنًا كبيرًا زائدًا {على} ما في أصل الجبلة، يوصل إلى المبلغ بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم {ما فاتكم} من المحبوبات الدنيوية {ولا تفرحوا} أي تسروا سرورًا يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة {بما آتاكم} أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو بالقصر، وأعطاكم الله على قراءة الباقين بالمد، وهي تدل على أن النعم لابد في إيجادها وإبقائها من حافظ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من ذاته إلا العدم، وقد بين سبحانه أن في تقديره هذا وكتبه من السر أن من وطن نفسه على فقد ما لديه من أعيان ومعان قبل أن تأمره بالعدم والوجدان، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح حتى يلهي عن الشكر، لا أصل المعنى لأنه ليس من الأفعال الاختيارية، قال جعفر الصادق: ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك الموت- انتهى، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله، وذلك بأن يقول في المصيبة: قدر الله وما شاء الله فعل ويصير في النعمة هكذا قضى، وما أدري ما مثله.
{هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر} [النمل: 40] فلا يزال خائفًا عند النقمة راجيًا أثر النعمة، قائلًا في الحالين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسرورًا بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل:
سقيًا لمعهدك الذي لو لم يكن ** ما كان قلبي للصبابة معهدا

وهذه صفة المتحررين من رق النفس، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته، أشار إليه القشيري.
ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح، وكان في أوصاف أهل الدنيا التفاخر، قال تعالى مبينًا أن المنهي عنه سابقًا التمادي مع الجبلة في الحزن والفرح، عاطفًا على ما تقديره: {فإن الله لا يحب كل يؤوس كفور} {والله لا يحب} أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم {كل مختال} أي متكبر نظر إلى ما في يده في الدنيا {فخور} قال القشيري: الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
ولما كان من جملة صفات المختال المكاثر بالمال البخل، وكان قد تقدم الحث على الإنفاق، وكان ما يوجبه لذة الفخار والاختيال التي أوصل إليها المال حاملة على البخل خوفًا من الإقتار الموجب عند أهل الدنيا للصغار، قال تعالى واصفًا للمختال أو {لكل}: {الذين يبخلون} أي يوجدون هذه الحقيقة مع الاستمرار {ويأمرون الناس} أي كل من يعرفونه {بالبخل} إرادة أن يكون لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة فيحامون عنهم أو أنهم يوجبون بأعمالهم من التكبر والبطر في الأموال التي حصلها لهم البخل استدراجًا من الله لهم بخل غيرهم لأنه إذا رآهم عظموا بالمال بخل ليكثر ماله ويعظم، وذلك كله نتيجة فرحهم بالموجود وبطرهم عند إصابته، فكانوا آمرين بالبخل لكونهم أسبابًا له والسبب كالآمر في إيجاد شيء.
ولما كان التقدير: فمن أقبل على ما ندب إليه من الإقراض الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله شكور حليم، عطف عليه قوله ذامًا للبخل محذرًا منه: {ومن يتول} أي يكلف نفسه من الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله {فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {هو} أي وحده {الغني} أي عن ماله وإنفاقه وكل شيء إلى الله مفتقر {الحميد} أي المستحق للحمد وسواء حمده الحامدون أم لا، وقراءة نافع وابن عامر بإسقاط هو مفيدة لحصر المبتدأ في الخبر للتعريف وإن كانت قراءة الجماعة آكد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض}.
والمراد كأنه تعالى قال: لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: {سَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} ثم شرح هاهنا كيفية تلك المسارعة، فقال: {سارعوا} مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، وقوله: {إلى مَغْفِرَةٍ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة، فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة، وقال آخرون: المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة، وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات.
المسألة الثانية:
احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية، فقالوا: هذه الآية دلت على وجوب المسارعة، فوجب أن يكون التراخي محظورًا، أما قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} وقال: في آل عمران {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض} [آل عمران: 133]، فذكروا فيه وجوهًا أحدها: أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها، هذا قول مقاتل وثانيها: قال: عطاء (عن) ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة، وثالثها: قال السدي: إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهًا على أن طولها أضعاف ذلك، ورابعها: أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج، وخامسها: وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فالمراد هاهنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع.